1- نرفض الأهواء

“إياكم وكل هوى يسمى بغير الإسلام”. صرخة تحذير صرخها المحدث الثقة ميمون بن مهران رحمه الله، لينبهنا إلى أن كل ما هو “غير الإسلام” لا يعدو أن يكون هوى من الأهواء، مهما تعددت أشكاله، وأياً كان الزمن الذي يظهر فيه. فالحق واحد، وهو الوحي. أما ما عداه فهو هوى ولا يجوز للمسلم أن يحتكم إليه ويطمئن إليه قلبه.

وقد أكد على هذا الإمام الشاطبي فقال في الموافقات: “قد جعل الله اتباع الهوى مضاداً للحق، وعده قسيماً له”. فقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ (الجاثية:٢٣). وقال تعالى: “أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (محمد:١٤). والمتأمل في المواضع التي ذُكر فيها الهوى في كتاب الله، فإنما يكون في معرض الذم له ولمتبعيه.

ليس من طريق وسط….

وما يزال ذلك أمر الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (الجاثية:١٨). إذن ليس من طريق وسط، إما شريعة الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون. وليس هناك من طريق ثالث. فعلى المسلم أن يحسم أمره، فلا يتردد ولا يتلجلج ولا يتحير بين السبل، فليس هناك مناهج متعددة يختار منها المؤمن أو يخلط منها ليخرج بمنهج جديد. فمن لا ينقاد بالكلية لشرع الله ومنهجه، فهو لا محالة سائر على خطوات الشيطان.

فتنة…وحذر…

وقد حذر الإمام أحمد من أن رد بعض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوقع في القلب شيئ من الزيغ، فيزيغ القلب فيهلك صاحبه. ولكن الزيغ درجات:

فمنه ما هو كفر محض يخرج صاحبه من الإسلام، ويتحقق بعلم صاحبه بحكم شرعي في كتاب الله، ثم يدّعي عدم صلاح هذا الحكم الشرعي للعمل به. وفي هؤلاء يقول الحق سبحانه وتعالى: “… وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (النساء:١٥٠-١٥1).

فالإيمان بالله دون الإيمان برسوله وتعاليمه إنما هو تفريق يؤدي إلى الكفر، ولا اعتراف باتخاذ الحلول الوسط التي تؤدي بنا إلى الدين المرقع، وهم الذين وصفتهم الآية بأنهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. وهذا ما نراه من الكثير من الحكومات الإسلامية، وغيرها من الأحزاب والمنظمات الاجتماعية المختلفة، فهي لا تصرح بالإلحاد، وإنما تدعو إلى مناهج تنافي بعض أحكام الإسلام في الحلال والحرام، فتحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، فهذا كفر لا ريب فيه والعياذ بالله.

لا نكفر مسلماً بغير برهان

ومن الزيغ ما هو دون ذلك وأصغر، قال بن تيمية: “كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك”. درجات متعددة من العصيان، منه اللمم، ومنه الكبائر، وما بينهما. يرتكبها المسلم شهوة، في ضعف من الهمة، وبعد عن المروءة، من دون أن يخطر على باله مخالفته للشريعة، أو يفعل تلك المعصية جهلاً بأحكام الشريعة.

ومحور الاستدلال قول البخاري رحمه الله: “المعاصي من أمر الجاهلية، لا يُكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليخ وسلم لأبا ذر عندما عيّر رجلاً بأمه: إنك امرؤ فيك جاهلية”. فالمعصية الواحدة كما في الحديث هي شعبة من الجاهلية، وكلما زادت معاصي المسلم زادت نسبة ما فيه من الجاهلية. ولكن لا ينتقل إلى الجاهلية كلية إلا بالشرك في العبادة أو اعتقاد حل بعض ما حرم الله.

ومن هنا كان تشديد النبي صلى الله عليه وسلم على الحذر في تكفير الذي يظهر الإسلام، وقوله: “أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدهما، إن كما قال، وإلا رجعت عليه”

كذلك شدد الإمام حسن البنا على ذلك فقال في الأصول العشرين: “ولا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض -برأي أو بمعصية- إلا إن أقر بكلمة الكفر, أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة, أو كذب صريح القرآن, أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال, أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر”.

إذن تكفير المسلم على وجه يخرجه من الإسلام خطير جداً، فلا بد من من صدور ما يخرجه عن الإسلام قطعاً، كأن يأتي قولاً أو عملاً لا يحتمل أي تأويل في كفر صاحبه. مثل: أن ينكر القطعي من الدين: كوجوب الصلاة، حرمة الربا، أو عدم لزوم التقيد بالإسلام، أو الاستهزاء بالإسلام أو بالقرآن، أو سب الله ورسوله، أو إنكار اليوم الآخر. أما صدور معاصي كشرب الخمر مع إقراره بأصول العقيدة الإسلامية، فهو عاص لا كافر، كذلك إذا قال قولاً أو عملاً يحتمل التأويل فلا نكفره بقوله أو عمله.

ومن الجدير بالذكر أننا نطلق على بعض الأفعال اسم الكفر، كما جاءت بها النصوص الشرعية، مثل: “ترك الصلاة كفر”. أما تكفير شخص معين بالذات، فلابد من صدور ما يكفر به يقيناً، مثل جحود فرض الصلاة، أو استتابته والقول له: إذا لم تصل نقتلك. ويصر على ترك الصلاة ويؤثر القتل، فهذا دليل على خلو قلبه من الإيمان ويموت كافراً.

ومن المهم أن نعلم أن الكفر نوعان:

كفر أصغر لا يخرج صاحبه من الإسلام. مثل النص القائل: “من حلف بغير الله فقد أشرك”، فهذا شرك غير مخرج من الإسلام، وإنما هو معصية غليظة جداً، وهكذا…

وكفر أكبر يخرج صاحبه من الإسلام. مثل إنكار القطعي من الدين كما أسلفنا.

حساسية النفس المؤمنة

ولكن هذا الحذر في التكفير لا يمنعنا من رؤية مدى الانحراف البالغ السعة الذي جنح إليه معظم المسلمين. نعم هم من المسلمين، ولكنهم في المعاصي والغون. وانحدروا إلى أدنى درجات الإيمان، وتخلفوا عن منازل الفضل. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله قولته الشهير عندما تولى الخلافة: “إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره” فقال هذه القولة لأنه رأى نوع بطر وضعف في العزائم قد سرى إلى جيل جديد ممن خلف جيل جيل الأفذاذ، فرأى في هذا دلالة انحراف عن الحق.

إنه استكبار واستعظام المؤمن لصغار المعاصي، وقليل البدع، وهين الظلم، وأوليات الترف. لذلك تجد المؤمن ساعياً أبداً في طلب الأفضل والأكمل، غير مستعد لغض بصره عن الحق، أو كف لسانه عن ميل.

جيلنا المخدوع

ومضت من بعد عمر بن عبدالعزيز قرون وأجيال، نصر الإسلام منها أبطال من القادة والمصلحين، وسادت الغفلة في حقب أخرى، حتى رأينا الأمة في يومها هذا وقد أنهكتها خطط اليهود ودول الكفر، وسلبتها خيرها. وذلك بإضعاف الأيمان وإقصاء حكم القرآن، وما فرضته وربت عليه ذراري المسلمين من تصورات سميت باسماء مختلفة مغايرة للإسلام.

فمحنة المسلمين اليوم لا تقتصر على أنظمة الحكم المستبدة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية ووسائل الإعلام لمسخ الأفكار والقيم، فأضحى عصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الأرض، أرادت لهم الفسوق ابتداءً، لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً. وفي هذا قول الله عز وجل: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ” (الزخرف:54). فهذا هو التفسير الصريح للتاريخ، ما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين.

فهؤلاء أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا به، وأخذوا يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش، ولا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد؛ كيلا يفيق بعد اللقمة وبعد الشهوات ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين. وهكذا تحول الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل في وداعته.

وأُشرب الناس الذل

الإنسان بفطرته نفورٌ من الذل، يأبى الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال فيروّضون على الخضوع ويألفوه. ولكن يبقى في النفس ذرات من الكرامة. فإذ دعى داعي العزة، أفاقت في الأنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية والذل. لذلك عمد الطغاة إلى أن يشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية، وإذا بأيديهم زمام الأمور.

وكان من تمام هذا الترويض، التضييق على دعاة الإسلام، ليتصدر التوجيه التربوي والإعلامي أدعياء العلم، ليمحوا تراث الأمة الذي نهضت به، ويطمسوا قصص أُسد الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين. وأدى هذا التضييق على الدعاة، ما نلحظه اليوم لدى بعض المخلصين من ميل إلى العزلة والخوف من التعاون مع العاملين في الحقل الإسلامي، والتماس الحذر من عمل يعرض للمتاعب والمضايقات.

ضرورة الانتشال السريع

يشعر الداعية المسلم بوجوب السعي لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه، ويدرك أنه لا مناص من التقدم للأخذ بقيادها وإن أبت، مع ما يكلفه هذا الأمر من تعب ونصب. ولكن من جهة أخرى يجد الداعية أن الأمر صعب، فهو كما قال عمر: ” قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي”.

فماذا يفعل؟ أيترك المحاولة؟ أم يؤجل إلى حين؟ كلا… ليس من تأجيل، فالطغيان كلما طال أمده، كلما تأصلت في النفوس معاني الذل والهوان.

الانطلاقة المزدوجة

وهكذا، لحقيقة وجود الذين يميلون إلى العزلة، والعصاة الذين تخلفوا عن منازل الفضل، ولحقيقة كفر بعض حكومات الأمة الإسلامية وأحزابها وأفرادها اليوم، بإيمانهم ببعض الإسلام دون بعض: وجب وجود حركة إسلامية، آمرة بالمعروف، مستنهضة للهمم، ناهية عن الانحراف، كابتة له، محاولة إقامة حكم للإسلام.

وإنما استطردنا هذا الاستطراد لندلل على انتفاء الحاجة للحكم على جميع المجتمع الحاضر بالجاهلية، وأن الداعية المسلم يمكنه الانطلاق بحرية وافرة انطلاقا مزدوجًا في آن واحد لا حرج فيه. فهو ينظر إلى الحكومة الداعية إلى نهج يخالف الشرع، أو الحزب الداعي إلى مثل ذلك، أو الفرد المتفلسف المعتقد لحل بعض الحرام، أو المنكر لجزء من الإيمان، نظرة تكفير غاضبة، ويسلك مسلكًا غليظًا مع هذه الحكومات والأحزاب وهؤلاء الأفراد.

وهو في الوقت نفسه ينطلق منطلقا آخر تجاه أهل المعاصي من المسلمين، ويخاطبهم أنواعًا متعددة من الخطاب. فمنها: خطاب حب وتوعية بمعاني العمل الجماعي لمن أدى الفرائض والتزم بالأحكام وأمر بالمعروف وفق اجتهاده الفردي. ومنها: خطاب حب وعتاب، أو تقريع، لمن التزم وسكت في موطن الأمر والنهي. ومنها: خطاب شفقة ورحمة وحنان، لمن ألهته الشهوة والغفلة عن الفرائض وسدر في العصيان. ومنها: خطاب مقت وتذكير غاضب عنيف، لصاحب الكبائر الظالم الماجن. كل ذلك في آن واحد. معًا في المجتمع الواحد.

  1. لا توجد تعليقات حتى الآن.
  1. No trackbacks yet.

أضف تعليق